أما حديث الأعمى الذي يشيعه أهل البدع ويحتجون به فقد رواه التِّرْمِذِيّ والنَّسَائِيُّ والبيهقي، وغيرهم، وقضيته {أن رجلاً أعمى جَاءَ إِلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقَالَ: يا رَسُول الله ادع الله أن يرد علي بصري، فَقَالَ له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن شئت صبرت وإن شئت دعوت لك}.
فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يجعل الأمر مجرد دعاء، وإنما خيره بين الصبر والدعاء، -والصبر أعظم- كما في الحديث الآخر {ما من عبد صالح أخذت منه حبيبتيه -أي عينيه- فصبر إلا عوضته عنهما الجنة} فالذي يصبر عَلَى اللأواء والنصب يخفف الله تَعَالَى عنه، فلا نكره المرض والمصائب، وإن كنا نكرهها بحكم الجبلة والطبيعة الإِنسَانية، لكن إذا وقعت فنقول: قدر الله وما شاء فعل، ونقول: إن لله ما أخذ وله ما أعطى، ولعل في هذا خير فقد يكفر عنا من الذنوب والخطايا.
لكن الأعمى لم يأخذ بذلك الصبر، لأنه لو كَانَ عنده صبر لما جَاءَ إِلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال له: يا رَسُولَ اللهِ! بل ادع لي، فقَالَ: قم فتوضأ وصل ركعتين، وادعوا الله فذهب الرجل فتوضأ وصلى، ثُمَّ أخذ يدعو: اللهم يا رب رد علي بصري، أو "يا مُحَمَّد يا نبي الرحمة، إني أتوجه إِلَى الله بك"، أو "اللهم شفعه فيَّ، ورد علي بصري" عَلَى ألفاظ مختلفة في الروايات.
وهذا الحديث صحيح وإن كَانَ
التِّرْمِذِيّ قد شكك في أحد الرواة عَلَى أنه مجهول العين إلا أنه قد عُلم هذا المجهول من روايات أخرى، وقد صححه شَيْخُ الإِسْلامِ
ابْن تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وغيره من الحفاظ.
وفيه دلالة عظيمة لمذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ في التوسل ورد جلي عَلَى أهل البدع والضلال، لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ حياً يقول: إن شئت دعوت لك، وأيضاً لم يكتفِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن دعا له بل قَالَ: توضأ وصل وادعو، فيكون ذلك أرجى لقبوله دعائه، فالاستجابة بعد وضوئه وصلاته ركعتين بإخلاص لا سيما في ذلك الوقت، لأن المسألة ليست هينة، بل مسألة عظيمة ترتب عليها أن يعود له بصره.
فكم كَانَ في المدينة من عميان في ذلك الزمان؟ وكم فيها من ذوي العاهات؟ وهل أحد أحرص عَلَى الخير من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ ومع ذلك لم يبلغنا قط عن أحد منهم أنه دعا بهذا الدعاء، أو بمثله أو توسل بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو بجاهه ليشفى من مرضه، فهل القوم جهلة؟ أم غافلون عن هذا الدعاء؟ لا؛ بل علموا أن هذه معجزة للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ودليل من دلائل النبوة الدالة عَلَى صدق نبوته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنه تحقق شيء يعجز عنه الأطباء ويعجز عنه كل البشر إلا إذا شاء الله، فعلم الصحابة أن هذه الحادثة خاصة بهذا الأعمى، ولو أن الأمر أمر دعاء لحفظ كل أعمى هذا الدعاء ودعا به، فبقيت هذه القصة دليلاً من أدلة نبوته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولهذا يروي هذه القصة أصحاب السيرة عَلَى أنها من دلائل النبوة، لا عَلَى أنها من الأدعية والأذكار الواردة، ومن هنا فرق بين هذا وهذا، وقوله: "اللهم شفعه في" نعم، يجوز هذا لمن كَانَ في حياته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقصده دعاء الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا تزاح الأحاديث الصحيحة التي أثبتت أن الشَّفَاعَةَ للأمةِ جميعاً، فنحن ندعو الله أن يجعلنا من الأمة المرحومة التي يشفع فيها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا حرج في هذا الدعاء، لأننا لم ندعُ إلا الله، ولم نعتدِ في الدعاء، بل دعوناه بأمر قد أخبرنا أنه حق.